فصل: الفصل الْأَوَّلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْإِضَافَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



خُلَاصَةُ مَا بَيَّنْتُهُ فِي فَضْلِ الْعَرَبِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، الَّذِي أَعَدَّهُمْ بِهِ اللهُ لِبَعْثَةِ سَيِّدِ الْبَشَرِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، بِالدِّينِ الْعَامِّ الْبَاقِي هِيَ: أَنَّ جَمِيعَ شُعُوبِ الْحَضَارَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا كَانَتْ قَدْ فَسَدَتْ غَرَائِزُهَا وَأَخْلَاقُهَا الْفِطْرِيَّةُ، وَعَقَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ، وَآدَابُهَا التَّقْلِيدِيَّةُ، بِفَسَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيهَا، وَتَعَاوُنِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِعْبَادِهَا وَاسْتِذْلَالِهَا لَهُمَا، وَتَسْخِيرِهَا لِتَوْفِيرِ لَذَّاتِهِمَا وَتَشْيِيدِ صُرُوحِ عَظَمَتِهِمَا، بِسَلْبِ حُرِّيَّتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ بِالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْكَهَنَةُ وَالْأَحْبَارُ وَالْقُسُوسُ الْخُضُوعَ لَهَا، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَدْنَى رَأْيٍ أَوِ اخْتِيَارٍ أَوْ فَهْمٍ فِيهَا، بِسَلْبِ حُرِّيَّةِ إِرَادَتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بِمَا يَضَعُ لَهُمُ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالنُّظُمِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ الِاسْتِبْدَادِيَّةِ، وَبِتَحَكُّمِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ قَانُونٍ وَلَا نِظَامٍ أَيْضًا، فَجَمِيعُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ كَانَتْ مُرْهَقَةً مُسْتَعْبَدَةً فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا إِلَّا الْعَرَبَ وَلاسيما عَرَبِ الْحِجَازِ.
وَأَمَّا الْعَرَبُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ رِيَاسَةُ حُكْمٍ اسْتِبْدَادِيَّةٌ تَسْتَذِلُّهُمْ وَتُفْسِدُ بَأْسَهُمْ وَتَقْهَرُ إِرَادَتَهُمْ عَلَى مَا لَا يُرِيدُونَ، وَلَا رِيَاسَةٌ دِينِيَّةٌ تَقْهَرُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ تَقَالِيدَ لَا يَعْقِلُونَهَا بَلْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الْحُرِّيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَفِي أَعْلَى ذُرْوَةٍ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ فَبِحُرِّيَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ لِفَهْمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَبِاسْتِقْلَالِ إِرَادَتِهِمْ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ الِاسْتِعْدَادِ لِلنُّهُوضِ بِمَا اعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهُ وَصَلَاحَهُ وَخَيْرِيَّتَهُ، وَلِإِقَامَتِهِ فِي قَوْمِهِمْ، وَنَشْرِهِ فِي غَيْرِهِمْ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، دُونَ تَحَكُّمِ رَئِيسٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ؛ فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُوَّادِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِذْعَانِ لِلشَّرْعِ، وَمَا تَضَعُهُ الْأُمَّةُ لِنَفْسِهَا مِنَ النِّظَامِ بِالشُّورَى بَيْنَ مُمَثِّلِيهَا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، حَتَّى فَرَضَ اللهُ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُشَاوَرَتَهَا فِي أُمُورِهَا، وَقَالَ لَهُ رَبُّهُ فِي صِيغَةِ مُبَايَعَةِ نِسَائِهَا لَهُ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (60: 12) وَبِهَا كَانَ يُبَايِعُ الرِّجَالُ كَالنِّسَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ.
وَأَمَّا كِنَانَةُ فَقَدْ كَانَ أَشْهَرَ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْكَرَمِ وَالنُّبْلِ، حَتَّى كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ إِلَيْهِ، وَيَنْقُلُونَ عَنْهُ حِكَمًا رَائِعَةً، وَكَفَى بِهَذَا اصْطِفَاءً عَلَيْهِمْ، وَامْتِيَازًا فِيهِمْ.
وَأَمَّا امْتِيَازُ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ مُتَوَاتَرٌ، وَأَهَمُّهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ كَانَ أَكْمَلَ فِيهِمْ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي أَطْرَافِ جَزِيرَتِهِمْ خَضَعُوا لِسِيَادَةِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ خُضُوعًا مَا، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْرَحَ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ أَنْسَابًا، وَأَشْرَفَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَعْلَاهُمْ آدَابًا، وَأَفْصَحَهُمْ أَلْسِنَةً، وَهُمُ الْمُمَهِّدُونَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ الْعَامَّةِ، بَعْدَ أَنْ جَمَعَ (قُصَيٌّ) جَمِيعَ قَبَائِلِهِمْ بِمَكَّةَ، وَاسْتَقَلُّوا بِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْحِجَابَةِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالرِّفَادَةِ- وَهِيَ إِسْعَافُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ-
وَأَسَّسُوا دَارَ النَّدْوَةِ لِأَجْلِ الشُّورَى فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَكَانُوا أَعْرَفَ الْعَرَبِ بِبُطُونِ الْعَرَبِ فِي جَمِيعِ جَزِيرَتِهِمْ بِمَا كَانُوا يَتَنَاوَبُونَهُ مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَبِذَلِكَ كَانُوا أَغْنَى الْعَرَبِ أَيْضًا وَأَشْرَفَهُمْ بِلَا مُنَازِعٍ، وَنَاهِيكَ بِمَا عَقَدُوا مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ فِي حَدَاثَةِ سَنِّ الرَّسُولِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ تَعَاقَدُوا أَوْ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا إِلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَوْنًا لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ إِلَى أَنْ تُرَدَّ مَظْلَمَتُهُ.
وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَأُمِّ هَانِئٍ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ وَتَارِيخِ الْبُخَارِيِّ، «فَضَّلَ اللهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ: فَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللهَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُ اللهَ إِلَّا قُرَشِيٌّ (أَيْ لَا يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا قُرَشِيٌّ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَصَرَهُمْ يَوْمَ الْفِيلِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (أَيْ نَصَرَهُمْ عَلَى قُوَّةٍ تَفُوقُ قُوَّتَهُمْ كَثِيرًا بِمَا يُشْبِهُ نَصْرَهُ لِرُسُلِهِ فِي كَوْنِهِ بِدُونِ اسْتِعْدَادٍ كَسْبِيٍّ يَقْرُبُ مِنِ اسْتِعْدَادِ عَدُوِّهِمْ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَزَّلَ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ وَهِيَ: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (106: 1) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ وَالْحِجَابَةَ وَالسِّقَايَةَ».
وَأَمَّا اصْطِفَاؤُهُ تَعَالَى لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَدْ كَانَ بِمَا امْتَازُوا بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ، فَقَدْ كَانَ جَدُّهُمْ هَاشِمٌ هُوَ صَاحِبَ إِيلَافِ قُرَيْشٍ الَّذِي أَخَذَ لَهُمُ الْعَهْدَ مِنْ قَيْصَرِ الرُّومِ عَلَى حِمَايَتِهِمْ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، وَمِنْ حُكُومَةِ الْيَمَنِ فِي رِحْلَةِ الشِّتَاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَشَمَ الثَّرِيدَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ قَوْمِهِ وَلِأَهْلِ مَوْسِمِ الْحَجِّ كَافَّةً، وَقَدْ أَرْبَى عَلَيْهِ فِي السَّخَاءِ وَالْكَرَمِ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ كَانُوا أَكْرَمَ قُرَيْشٍ أَخْلَاقًا وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالْأَثَرَةِ، وَلَا يُنَازِعُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ فِي حَسَدِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى كَوْنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ: تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا حَتَّى إِذَا زَاحَمْنَاهُمْ بِالْمَنَاكِبِ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ. فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ وَالْمُبَارَاةِ الْكَسْبِيَّةِ فِي الْفَضَائِلِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضَهُ أَحَدٌ فِي بَلَاغَتِهِ وَلَا هِدَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ اللهِ لَا مِنْ عِلْمِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَارَضَهُ مَنْ كَانُوا أَشْهَرَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ لِهَذِهِ السُّورَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَوْقُوفًا وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ- سَبْعَ مَرَّاتٍ- كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» كَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَيُرَاجَعُ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ فِيهِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ فِي شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ وَبَقِيَ تَلْخِيصُ مَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَآدَابِهِ وَسُنَنِ اللهِ فِي ذَلِكَ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى تَوْفِيقَنَا فِيهِ لِلْحَقِّ الَّذِي يَرْضَاهُ وَيَنْفَعُ عِبَادَهُ).

.خُلَاصَةُ سُورَةِ بَرَاءَةَ (التَّوْبَةِ):

وَهِيَ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ وَفِيهَا فَصُولٌ:
(هَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطِّوَالِ نُزُولًا، فَيَقِلُّ فِيهَا ذِكْرُ أُصُولِ الدِّينِ وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَكَذَا أَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ- رَاجِعْ مُقَدِّمَةَ خُلَاصَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي ص105 و106 وَالتَّنَاسُبُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي ص132 و133 ج10 ط الْهَيْئَةِ).

.الباب الْأَوَّلُ: فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَشُئُونِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ فِيهَا:

وَفِيهِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ:

.الفصل الْأَوَّلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْإِضَافَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى:

1- الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ:
فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَمِنْهَا الْمُكَرَّرُ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَكُلٌّ مِنْهَا مَوْضُوعٌ فِي مَوْضِعِهِ الْمُنَاسِبِ لِمَعْنَاهُ فِي السِّيَاقِ أَوِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الْعَامَّةُ لِذِكْرِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَتَكْرَارِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلِفَةِ فَهِيَ تَذْكِيرُ تَالِي الْقُرْآنِ وَسَامِعِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ بِرَبِّهِ وَخَالِقِهِ وَمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّذِي يُثْمِرُ لَهُ زِيَادَةُ تَعْظِيمِهِ وَحُبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِي رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ، لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هِدَايَةِ كِتَابِهِ، أَوْ خَالَفَ حِكْمَتَهُ وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ، وَهَذَا أَعْلَى مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، فِي إِكْمَالِ الْإِيمَانِ، وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْإِنْسَانِ (فَرَاجِعْهُ فِي 106 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
وَمِمَّا وَرَدَ فِيهَا فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (9: 78) وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}- إِلَى قَوْلِهِ- {وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (9: 16) وَهُمَا أَعْظَمُ مَا يُجَدِّدُ فِي الْقَلْبِ مُرَاقَبَتَهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَحَسْبُكَ بِهِمَا وَازِعًا وَرَافِعًا.
2- الْمَعِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ:
فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْمَعِيَّةِ الْعُلْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْغَارِ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (9: 40) وَهِيَ مَعِيَّةُ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، وَالْحِفْظِ وَالْعِصْمَةِ، وَالتَّأْيِيدِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ فِي حَالِ الْهِجْرَةِ، وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا، وَمِنْ أَعْظَمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِكَلِيمِهِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (20: 46) فَرَاجِعْ (ص369 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي الْآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (9: 123) وَهَذِهِ مَعِيَّةُ النَّصْرِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَيُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعْنَاهَا: إِنَّهَا مَعِيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ تَعَالَى.
3- الدَّرَجَةُ وَالْعِنْدِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ وَسَكِينَتُهُ تَعَالَى:
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ} (9: 20) الْآيَةَ. وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ (ص198 ج10 ط الْهَيْئَةِ) إِنَّهَا حُكْمِيَّةٌ (بِضَمِّ الْحَاءِ) شَرْعِيَّةٌ، وَمَكَانِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ، أَيْ هُمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَأَكْبَرُ مَثُوبَةً فِي جِوَارِ اللهِ.
وَقَالَ بَعْدَ بِشَارَتِهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْجَنَّاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْخُلُودِ فِيهَا مِنَ الْآية: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (9: 22) وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، فَالْعِنْدِيَّةُ فِيهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا.
وَقَالَ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (9: 36) فَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا يُفَسِّرُهَا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ كِتَابُ اللهِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ مَقَادِيرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَنِظَامَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ. وَقِيلَ: كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ الَّذِي فِيهِ حُكْمُهُ التَّشْرِيعِيُّ فِي الشُّهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (9: 36) إِلَخْ.
وَفِي الْآية: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} (9: 52) فَعِنْدِيَّةُ الْعَذَابِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بِفِعْلِهِ تَعَالَى دُونَ كَسْبٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقوله: {أَوْ بِأَيْدِينَا} وَالْإِضَافَةُ فِي الْعِنْدِيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ لِلتَّوْقِيفِ وَالتَّعْرِيفِ، وَفِي الْعِنْدِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ لِلتَّشْرِيفِ، وَمِثْلُهَا إِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى.
4- حُبُّ اللهِ وَرِضَاهُ وَكُرْهُهُ وَسُخْطُهُ وَغَضَبُهُ:
قَالَ تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (9: 7) وَقَالَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (9: 100) وَقَالَ فِي جَزَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} (9: 72) وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ مَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ مَقَامِ الرُّؤْيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَقَالَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (9: 96).
أَسْنَدَ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ الْحُبَّ وَالرِّضَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي سُوَرٍ أُخْرَى، كَمَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْكُرْهَ فِي قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ {وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ} (9: 46) وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ فِي سُوَرٍ أُخْرَى. وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْإِثَابَةِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ لَوَازِمَ الْحُبِّ وَالرِّضَا، وَبِالْعُقَابِ مِنْ لَوَازِمِ السُّخْطِ وَالْكُرْهِ وَالْغَضَبِ، فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِ الْخَالِقِ بِعَبِيدِهِ الَّذِينَ تُعَدُّ هَذِهِ الصِّفَاتُ انْفِعَالَاتٍ نَفْسِيَّةً لَهُمْ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا.
وَمَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ حُبَّ اللهِ تَعَالَى وَكُرْهَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ صِفَاتٌ تَلِيقُ بِهِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَهِيَ لَا تُمَاثِلُ مَا سُمِّيَ بِاسْمِهَا مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ وَعِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ لَا تُمَاثِلُ ذَوَاتِ الْبَشَرِ وَعِلْمَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ بِلَا فَرْقٍ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّ مِنْ خَلْقِ اللهِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يُمَاثِلُ فِي إِدْرَاكِهِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، بَلْ رُوِيَ فِي ثَمَرِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِثْلَهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَطْعِمَةِ الدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاءَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (32: 17) وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِهِ لَهُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وَأَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْآيَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَ الِانْفِرَادَ بِهَا دُونَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فَهُوَ أَنَّ حُبَّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَالْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ وَأَهْلِهِمَا، وَكَرَاهَةَ الْبَاطِلِ كَالْكُفْرِ، وَالشَّرِّ كَالظُّلْمِ وَمُجْتَرِحِيهِمَا، كِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَحْضِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَمَالًا مَحْضًا فَالْعَقْلُ يُوجِبُهُ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ بِأَعْلَى مِمَّا يَكُونُ مِنْهُ لِلْوُجُودِ الْمُمْكِنِ- فَقَدِ اتَّفَقَ الْعَقْلُ مَعَ النَّقْلِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ بِمَعْنًى أَكْمَلَ مِمَّا هِيَ فِي خِيَارِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ وَضْعُ أَسْمَاءَ لَهَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ تَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْوَحْيِ الْفَاصِلِ وَهُوَ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (42: 11) فَالتَّنْزِيهُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى السَّالِبَةِ أَزَالَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ التَّشْبِيهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْمُوجِبَةِ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّشْبِيهِ.